سحر الدماغ ولغة النجاح

هل كان نيتشه وآرتو ونرفال وهولدرلين عباقرة مجانين؟

هل العبقرية مرض عقلي؟ وما حصة العبقرية التي يخبئها الجنون؟

الاحرى كم نسبة الجنون المفترضة ليزعم المرء العبقرية الحقة والخالصة؟

الدماغ عضو معقد، وهو تحدّ للبيولوجيا حيث لا تزال آليته تعصي فهم العلماء وادراكهم. فبفضل مئات مليارات خلاياه العصبية والثلاثة ملايين مليار من وصلاته العصبية والكمية غير المحدودة من اتصالاته المتداخلة الممكنة، يتسع اي دماغ لمعلومات يعجز عن استيعابها اكثر الكومبيوترات تجهيزا وتفوقا.

اي تطور هذا، منذ التغيير الذي طرأ قبل ثمانية ملايين عام! اي تطور تبعه الدماغ منذ الانسان الاول ولم يكن يتجاوز اربعمئة سنتم مكعب وصولا الى الف وثلاثمئة وخمسين سنتم مكعب لدى الانسان المفكر او الحديث Homo Sapiens. وهل توقف دماغنا مذاك عن التطور؟ اذا كان الانتروبولوجيون يقدرون انه فيزيكياً استقر منذ خمسين الف عام، نلاحظ في المقابل حالات فريدة كحالة الشاعر بايرن اذ بلغ دماغه الفين ومئتين وثلاثين سنتم مكعب. مع ذلك، لا شيء، او تقريبا لا شيء يميزنا في ارثنا الجيني عن ارث القرود. الـ"أ.د.ن." ADN لدى القرد الكبير (الشمبانزي) مطابق 99 في المئة للذي لدى الانسان لكنه الواحد في المئة المتبقي الذي يشكل، بالطبع، كل الفرق. رغم تماثله مع ادمغة باقي الثدييات لناحية العاطفة والانفعال، فان خصوصية الدماغ البشري تكمن في مادة الكورتكس، المادة السنجابية الشهيرة، حيث خمسة عشر مليون خلية عصبية تنظم انبل المهمات في عملية الادراك: الوعي والفكر.

لم يعد الذكاء اليوم يعتبر شأنا جينيا، اتفق الباحثون على ان التطور الحضاري والسهولة التي منحها الوقوف عموديا، هما اللذان اديا الى تطور الدماغ والعكس غير صحيح. لكن هذه النظرية غير كافية ولا تزال ثمة تساؤلات والكثير من الغموض حول حقيقة الموضوع. احد اشكال هذا الغموض، الطبيعة الملتبسة للعبقرية التي ما لبثت الى يومنا هذا تشكل لغزا حقيقيا.

كيف يصنع العالَم العبقرية؟

ان لم يصبح جميع المتفوقين عباقرة، فجميع العباقرة تقريبا كانوا في البداية متفوقين. والمثل الاوضح على ذلك موزار الذي كان في الرابعة فقط عندما انجز مؤلفه الاول، الكونشرتو لبيانو. الا ان النضج الباكر في الذكاء العلمي او الفني، والمعرفة التلقائية اي العفوية لا يعنيان الكثير. في طفولته، كانوا يحسبون آينشتاين متخلفا عقليا: كان بطيئا، منطويا على ذاته، منعزلا، ولم يتكلم قبل سنه الثالثة. واذا كان باسكال قد اخترع نظريته في الخامسة عشرة من عمره وآلته الحاسبة في الثامنة عشرة، فان عباقرة اخرين لم يظهروا الا في السن المتأخرة امثال سوفوكل الذي انتظر بلوغه الخامسة والسبعين ليكتب "اوديب ملكا"، او غوته الذي انتظر من ناحيته بلوغ الحادية والثمانين لكتابة "فاوست".

كانت كلمة عبقرية غير قابلة للتحديد، فعلى الاقل يبقى لنا شيء واحد اكيد: ليس ثمة عبقرية مجهولة. ظهرت هذه المفردة في عصر النهضة، نابعة من اللاتينية لتملأ كل معناها في عصر الانوار. بالنسبة الى كانط الـ"عبقرية هي التهيّؤ الفطري للروح الذي من خلاله تعطي الطبيعة قوانين الفن". اما الرومنطيقيون فيرون في العبقري انسانا مختلفا، نصف - انسان ونصف - آلة، وفي الوقت ذاته أعلى من سواه وابعد منه بل في مكان اخر. فكتور هوغو يقول في انفعال "اعمال العباقرة من شأن الفوق - بشري النابع من البشري".

الفرق الكبير بين العباقرة والمخترعين المحددين كالفرق بين بيكاسو غوتنبرغ. اي ان بيكاسو فريد، في حين ان اي شخص اخر كان استطاع ان يكون مكان غوتنبرغ لو لم يكن الاخير موجودا. نيوتن، موزار، داروين، آينشتاين، بيكاسو، كل على طريقته غيّر عصره، اعطاه مجرى غيّر متوقع وغير قابل للتوقف.

العبقرية لا تفسر ذاتها، يقول كلارك، بل تفرض نفسها. "العباقرة مهووسون احاديون (اي يفكرون في فكرة متسلطة واحدة) انانيون. انهم مبدعون مثابرون، عمال ذوو خيال خصب".

غير مكترثين بالانتقاد، واثقون من حقوقهم، لا يبقى امام العباقرة، عادة، سوى ان يواجهوا مغتابينهم بثقتهم الكبيرة بصحة اختراعهم. وينطوي ذلك احيانا على اخطار: غاليليه عاش التجربة على حسابه.

هل كان انطونان ارتو مجنونا عبقريا، ام عبقريا مصاب بالجنون؟ ونيتشيه ونرفال وهولدرلين؟ "يحبسونهم ويقيدونهم بالسلاسل او يرفعون لهم التماثيل". وكان ديدرو يكتب عن اولئك العباقرة القابلين للجدال: "الفرق الوحيد بيني وبين المجنون، هو اني لست مجنونا" كان يقول دالي.

بالنسبة الى بعض اطباء الاعصاب، العقول العلمية قد تكون اكثر استخداما للدماغ في جهته اليسرى، وقد تتكىء العقول الفنانة اكثر على الجهة اليمنى منه. نظرية قابلة للجدال ومنتقدة في الوقت عينه. حتى الان وفي كل الاحوال، لم يعثر لدى العباقرة على اي فرق ظاهر في بنية الدماغ. بعد وفاته، قطع دماغ اينشتاين الى مئتين واربعين رقيقة، من اجل لا شيء! واظهرت التحاليل ان حجم دماغه اصغر من الحجم العادي. هل يجب اذن الكلام على تشوه ما؟

ثمة في الجهة اليسرى من دماغ شوستاكوفتش شظية قنبلة صغيرة كانت تسمعه كلما احنى رأسه جانبا انغاما مختلفة. ولم يقبل على الاطلاق انتزاعها.

زائر

أشكرك على هذا الموضوع الرائع